الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»
.باب كَرَاهَةِ تَفْضِيلِ بَعْضِ الأَوْلاَدِ فِي الْهِبَةِ: قَوْله: عَنْ النُّعْمَان بْن بَشِير أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي نَحَلْت اِبْنِي هَذَا غُلَامًا كَانَ لِي، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَكُلَّ وَلَدك نَحَلْته مِثْل هَذَا؟ قَالَ: لَا. فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَارْجِعْهُ» وَفِي رِوَايَة: قَالَ: «فَارْدُدْهُ» وَفِي رِوَايَة: «فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفَعَلْت هَذَا بِوَلَدِك كُلّهمْ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: اِتَّقُوا اللَّه، وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادكُمْ. قَالَ: فَرَجَعَ أَبِي، فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَة» وَفِي رِوَايَة: «قَالَ فَلَا تُشْهِدنِي إذًا، فَإِنِّي لَا أَشْهَد عَلَى جَوْر» وَفِي رِوَايَة: «لَا تُشْهِدنِي عَلَى جَوْر» وَفِي رِوَايَة: قَالَ: «فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي» وَفِي رِوَايَة: «قَالَ فَإِنِّي لَا أَشْهَد» وَفِي رِوَايَة: قَالَ: «فَلَيْسَ يَصْلُح هَذَا، وَإِنِّي لَا أَشْهَد إِلَّا عَلَى حَقّ».3052- أَمَّا قَوْله: «نَحَلْت» فَمَعْنَاهُ: وَهَبْت وَفِي هَذَا الْحَدِيث: أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسَوِّي بَيْن أَوْلَاده فِي الْهِبَة، وَيَهَب لِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمْ مِثْل الْآخَر وَلَا يُفَضِّل. وَيُسَوِّي بَيْن الذَّكَر وَالْأُنْثَى، وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: يَكُون لِلذَّكَرِ مِثْل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَالصَّحِيح الْمَشْهُور أَنَّهُ يُسَوِّي بَيْنهمَا لِظَاهِرِ الْحَدِيث، فَلَوْ فَضَّلَ بَعْضهمْ، أَوْ وَهَبَ لِبَعْضِهِمْ دُون بَعْض، فَمَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَأَبِي حَنِيفَة: أَنَّهُ مَكْرُوه وَلَيْسَ بِحَرَامٍ، وَالْهِبَة صَحِيحَة، وَقَالَ طَاوُسٌ وَعُرْوَة وَمُجَاهِد وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَدَاوُد: هُوَ حَرَام، وَاحْتَجُّوا بِرِوَايَة: «لَا أَشْهَد عَلَى جَوْر» وَبِغَيْرِهَا مِنْ أَلْفَاظ الْحَدِيث وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقُوهُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي» قَالُوا: وَلَوْ كَانَ حَرَامًا أَوْ بَاطِلًا لَمَا قَالَ هَذَا الْكَلَام، فَإِنْ قِيلَ: قَالَهُ تَهْدِيدًا، قُلْنَا: الْأَصْل فِي كَلَام الشَّارِع غَيْر هَذَا، وَيَحْتَمِل عِنْد إِطْلَاقه صِيغَة أَفْعِلْ عَلَى الْوُجُوب أَوْ النَّدْب، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ، فَعَلَى الْإِبَاحَة، وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا أَشْهَد عَلَى جَوْر» فَلَيْسَ فيه أَنَّهُ حَرَام؛ لِأَنَّ الْجَوْر هُوَ: الْمَيْل عَنْ الِاسْتِوَاء وَالِاعْتِدَال، وَكُلّ مَا خَرَجَ عَنْ الِاعْتِدَال فَهُوَ جَوْر، سَوَاء كَانَ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا، وَقَدْ وَضَحَ بِمَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي» يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ، فَيَجِب تَأْوِيل الْجَوْر عَلَى أَنَّهُ: مَكْرُوه كَرَاهَة تَنْزِيه. وَفِي هَذَا الْحَدِيث: أَنَّ هِبَة بَعْض الْأَوْلَاد دُون بَعْض صَحِيحَة، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَهَب الْبَاقِينَ مِثْل هَذَا اُسْتُحِبَّ رَدّ الْأَوَّل؛ قَالَ أَصْحَابنَا: يُسْتَحَبّ أَنْ يَهَب الْبَاقِينَ مِثْل الْأَوَّل؛ فَإِنْ لَمْ يَفْعَل اُسْتُحِبَّ رَدّ الْأَوَّل، وَلَا يَجِب.وَفيه: جَوَاز رُجُوع الْوَالِد فِي هِبَته لِلْوَلَدِ. وَاللَّهُ أَعْلَم. قَوْله: «سَأَلَتْ أَبَاهُ بَعْض الْمَوْهُوبَة» هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ، وَفِي بَعْضهَا: «بَعْض الْمَوْهِبَة»، وَكِلَاهُمَا صَحِيح، وَتَقْدِير الْأَوَّل: بَعْض الْأَشْيَاء الْمَوْهُوبَة.3056- قَوْله: «فَالْتَوَى بِهَا سَنَة» أَيْ مَطَلَهَا.3060- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَارِبُوا بَيْن أَوْلَادكُمْ» قَالَ الْقَاضِي: رَوَيْنَاهُ: «قَارِبُوا» الْبَاء مِنْ الْمُقَارَبَة، وَبِالنُّونِ مِنْ الْقِرَان، وَمَعْنَاهُمَا صَحِيح، أَيْ سَوُّوا بَيْنهمْ فِي أَصْل الْعَطَاء وَفِي قَدْره.3061- قَوْلهَا: «اِنْحَلْ اِبْنِي غُلَامك» هُوَ بِفَتْحِ الْحَاء يُقَال: نَحَلَ يَنْحَل كَذَهَبَ يَذْهَب..باب الْعُمْرَى: قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا رَجُل أَعْمَرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ فَإِنَّهَا لِلَّذِي أُعْطِيهَا لَا تَرْجِع إِلَى الَّذِي أَعْطَاهَا؛ لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاء وَقَعَتْ فيه الْمَوَارِيث» وَفِي رِوَايَة: «مَنْ أَعْمَرَ رَجُلًا عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ فَقَدْ قَطَعَ قَوْله حَقّه فيها، وَهِيَ لِمَنْ أَعْمَرَ وَلِعَقِبِهِ»، وَفِي رِوَايَة: «قَالَ جَابِر: إِنَّمَا الْعُمْرَى الَّتِي أَجَازَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُول: هِيَ لَك وَلِعَقِبِك، فَأَمَّا إِذَا قَالَ هِيَ لَك مَا عِشْت فَإِنَّهَا تَرْجِع إِلَى صَاحِبهَا».وَفِي رِوَايَة عَنْ جَابِر: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ»، وَفِي رِوَايَة: «الْعُمْرَى جَائِزَة»، وَفِي رِوَايَة: «الْعُمْرَى مِيرَاث».قَالَ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ مِنْ الْعُلَمَاء: الْعُمْرَى: قَوْله: أَعْمَرْتُك هَذِهِ الدَّار مَثَلًا، أَوْ جَعَلْتهَا لَك عُمْرك، أَوْ حَيَاتك أَوْ مَا عِشْت أَوْ حَيِيت أَوْ بَقِيت، أَوْ مَا يُفِيد هَذَا الْمَعْنَى.وَأَمَّا عَقِب الرَّجُل فَبِكَسْرِ الْقَاف وَيَجُوز إِسْكَانهَا مَعَ فَتْح الْعَيْن وَمَعَ كَسْرهَا كَمَا فِي نَظَائِره.وَالْعَقِب: هُمْ أَوْلَاد الْإِنْسَان مَا تَنَاسَلُوا.قَالَ أَصْحَابنَا: الْعُمْرَى ثَلَاثَة أَحْوَال: أَحَدهَا: أَنْ يَقُول أَعْمَرْتُك هَذِهِ الدَّار، فَإِذَا مُتّ فَهِيَ لِوَرَثَتِك أَوْ لِعَقِبِك، فَتَصِحّ بِلَا خِلَاف وَيَمْلِك بِهَذَا اللَّفْظ رَقَبَة الدَّار وَهِيَ هِبَة، لَكِنَّهَا بِعِبَارَةٍ طَوِيلَة، فَإِذَا مَاتَ فَالدَّار لِوَرَثَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِث فَلِبَيْتِ الْمَال، وَلَا تَعُود إِلَى الْوَاهِب بِحَالٍ، خِلَافًا لِمَالِكٍ.الثَّانِي: أَنْ يَقْتَصِر عَلَى قَوْله: جَعَلْتهَا لَك عُمْرك، وَلَا يَتَعَرَّض لِمَا سِوَاهُ، فَفِي صِحَّة هَذَا الْعَقْد قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ: أَصَحّهمَا- وَهُوَ الْجَدِيد- صِحَّته، وَلَهُ حُكْم الْحَال الْأَوَّل. وَالثَّانِي- وَهُوَ الْقَدِيم-: أَنَّهُ بَاطِل، وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: إِنَّمَا الْقَوْل الْقَدِيم أَنَّ الدَّار تَكُون لِلْمُعْمَرِ حَيَاته، فَإِذَا مَاتَ عَادَتْ إِلَى الْوَاهِب أَوْ وَرَثَته؛ لِأَنَّهُ خَصَّهُ بِهَا حَيَاته فَقَطْ، وَقَالَ بَعْضهمْ: الْقَدِيم أَنَّهَا عَارِيَّة يَسْتَرِدُّهَا الْوَاهِب مَتَى شَاءَ، فَإِذَا مَاتَ عَادَتْ إِلَى وَرَثَته.الثَّالِث: أَنْ يَقُول جَعَلْتهَا لَك عُمْرك، فَإِذَا مُتّ عَادَتْ إِلَيَّ أَوْ إِلَى وَرَثَتِي إِنْ كُنْت مُتّ، فَفِي صِحَّته خِلَاف عِنْد أَصْحَابنَا مِنْهُمْ مَنْ أَبْطَلَهُ، وَالْأَصَحّ عِنْدهمْ صِحَّته، وَيَكُون لَهُ حُكْم الْحَال الْأَوَّل، وَاعْتَمَدُوا عَلَى الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الْمُطْلَقَة: «الْعُمْرَى جَائِزَة» وَعَدَلُوا بِهِ عَنْ قِيَاس الشُّرُوط الْفَاسِدَة، وَالْأَصَحّ: الصِّحَّة فِي جَمِيع الْأَحْوَال، وَأَنَّ الْمَوْهُوب لَهُ يَمْلِكهَا مِلْكًا تَامًّا يَتَصَرَّف فيها بِالْبَيْعِ وَغَيْره مِنْ التَّصَرُّفَات. هَذَا مَذْهَبنَا، وَقَالَ أَحْمَد: تَصِحّ الْعُمْرَى الْمُطْلَقَة دُون الْمُؤَقَّتَة.وَقَالَ مَالِك فِي أَشْهَر الرِّوَايَات عَنْهُ: الْعُمْرَى فِي جَمِيع الْأَحْوَال تَمْلِيك لِمَنَافِع الدَّار مَثَلًا، وَلَا يَمْلِك فيها رَقَبَة الدَّار بِحَالٍ.وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة بِالصِّحَّةِ كَنَحْوِ مَذْهَبنَا. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيّ وَالْحَسَن بْن صَالِح وَأَبُو عُبَيْدَة، وَحُجَّة الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِ هَذِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، وَاللَّهُ أَعْلَم.قَوْله: «فَهِيَ لَهُ بَتْلَة» أَيْ: عَطِيَّة غَيْر رَاجِعَة إِلَى الْوَاهِب.3068- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالكُمْ وَلَا تُفْسِدُوهَا» إِلَى آخِره، الْمُرَاد بِهِ إِعْلَامهمْ أَنَّ الْعُمْرَى هِبَة صَحِيحَة مَاضِيَة، يَمْلِكهَا الْمَوْهُوب لَهُ مِلْكًا تَامًّا لَا يَعُود إِلَى الْوَاهِب أَبَدًا، فَإِذَا عَلِمُوا ذَلِكَ فَمَنْ شَاءَ أَعْمَرَ وَدَخَلَ عَلَى بَصِيرَة، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَهَّمُونَ أَنَّهَا كَالْعَارِيَّةِ، وَيَرْجِع فيها، وَهَذَا دَلِيل لِلشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَم.3069- قَوْله: (اِخْتَصَمُوا إِلَى طَارِق مَوْلَى عُثْمَان) هُوَ طَارِق بْن عَمْرو، وَلَّاهُ عَبْد الْمَلِك بْن مَرْوَان الْمَدِينَة بَعْد إِمَارَة اِبْن الزُّبَيْرِ..كتاب الوصية: قَالَ الْأَزْهَرِيّ: هِيَ مُشْتَقَّة مِنْ وَصَيْت الشَّيْء أُوصِيه إِذَا وَصَلْته، وَسُمِّيَتْ وَصِيَّة؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ مَا كَانَ فِي حَيَاته بِمَا بَعْده، وَيُقَال: وَصَّى وَأَوْصَى إِيصَاء، وَالِاسْم: الْوَصِيَّة وَالْوَصَاة. وَاعْلَمْ أَنَّ أَوَّل كِتَاب الْوَصِيَّة هُوَ اِبْتِدَاء الْفَوَات، وَالثَّانِي: مِنْ الْمَوَاضِع الثَّلَاثَة الَّتِي فَاتَتْ إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن سُفْيَان صَاحِب مُسْلِم فَلَمْ يَسْمَعهَا مِنْ مُسْلِم وَقَدْ سَبَقَ بَيَان هَذِهِ الْمَوَاضِع فِي الْفُصُول الَّتِي فِي أَوَّل هَذَا الشَّرْح، وَسَبَقَ أَحَد الْمَوَاضِع فِي كِتَاب الْحَجّ، وَهَذَا أَوَّل الثَّانِي، وَهُوَ قَوْل مُسْلِم: حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْر بْن حَرْب وَمُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى الْعَنَزِيّ وَاللَّفْظ لِابْنِ مُثَنَّى قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى وَهُوَ اِبْن سَعِيد الْقَطَّان عَنْ عُبَيْد اللَّه قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر..باب قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا حَقّ اِمْرِئٍ مُسْلِم لَهُ شَيْء يُرِيد أَنْ يُوصِي فِيهِ يَبِيت لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّته مَكْتُوبَة عِنْده». 3074- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا حَقّ اِمْرِئٍ مُسْلِم لَهُ شَيْء يُرِيد أَنْ يُوصِي فيه يَبِيت لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّته مَكْتُوبَة عِنْده» وَفِي رِوَايَة: «ثَلَاث لَيَالٍ» فيه: الْحَثّ عَلَى الْوَصِيَّة، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْأَمْر بِهَا، لَكِنَّ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجَمَاهِير أَنَّهَا مَنْدُوبَة لَا وَاجِبَة، وَقَالَ دَاوُدُ وَغَيْره مِنْ أَهْل الظَّاهِر: هِيَ وَاجِبَة؛ لِهَذَا الْحَدِيث، وَلَا دَلَالَة لَهُمْ فيه، فَلَيْسَ فيه تَصْرِيح بِإِيجَابِهَا، لَكِنْ إِنْ كَانَ عَلَى الْإِنْسَان دَيْن أَوْ حَقّ أَوْ عِنْده وَدِيعَة وَنَحْوهَا لَزِمَهُ الْإِيصَاء بِذَلِكَ، قَالَ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه: مَعْنَى الْحَدِيث مَا الْحَزْم وَالِاحْتِيَاط لِلْمُسْلِمِ إِلَّا أَنْ تَكُون وَصِيَّته مَكْتُوبَة عِنْده، وَيُسْتَحَبّ تَعْجِيلهَا، وَأَنْ يَكْتُبهَا فِي صِحَّته، وَيُشْهِد عَلَيْهِ فيها، وَيَكْتُب فيها مَا يَحْتَاج إِلَيْهِ، فَإِنْ تَجَدَّدَ لَهُ أَمْر يَحْتَاج إِلَى الْوَصِيَّة بِهِ أَلْحَقَهُ بِهَا، قَالُوا: وَلَا يُكَلَّف أَنْ يَكْتُب كُلّ يَوْم مُحَقَّرَات الْمُعَامَلَات وَجُزْئِيَّات الْأُمُور الْمُتَكَرِّرَة.وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَوَصِيَّته مَكْتُوبَة عِنْده» فَمَعْنَاهُ: مَكْتُوبَة، وَقَدْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ بِهَا لَا أَنَّهُ يَقْتَصِر عَلَى الْكِتَابَة، بَلْ لَا يَعْمَل بِهَا وَلَا تَنْفَع إِلَّا إِذَا كَانَ أَشْهَدَ عَلَيْهِ بِهَا، هَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور، وَقَالَ الْإِمَام مُحَمَّد بْن نَصْر الْمَرْوَزِيُّ مِنْ أَصْحَابنَا: يَكْفِي الْكِتَاب مِنْ غَيْر إِشْهَاد؛ لِظَاهِرِ الْحَدِيث. وَاللَّهُ أَعْلَم..باب الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ: 3076- قَوْله فِي حَدِيث سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «عَادَنِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجَع أَشْفَيْت مِنْهُ عَلَى الْمَوْت» فيه: اِسْتِحْبَاب عِيَادَة الْمَرِيض، وَأَنَّهَا مُسْتَحَبَّة لِلْإِمَامِ كَاسْتِحْبَابِهَا لِآحَادِ النَّاس، وَمَعْنَى: «أَشْفَيْت عَلَى الْمَوْت» أَيْ: قَارَبْته وَأَشْرَفْت عَلَيْهِ، يُقَال: أَشْفَى عَلَيْهِ وَأَشَافَ، قَالَهُ الْهَرَوِيُّ وَقَالَ اِبْن قُتَيْبَة: لَا يُقَال أَشْفَى إِلَّا فِي الشَّرّ، قَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ: الْوَجَع اِسْم لِكُلِّ مَرَض. وَفيه جَوَاز ذِكْر الْمَرِيض مَا يَجِدهُ لِغَرَضٍ صَحِيح مِنْ مُدَاوَاة أَوْ دُعَاء صَالِح أَوْ وَصِيَّة أَوْ اِسْتِفْتَاء عَنْ حَاله وَنَحْو ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُكْرَه مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ عَلَى سَبِيل التَّسَخُّط وَنَحْوه فَإِنَّهُ قَادِح فِي أَجْر مَرَضه.قَوْله: «وَأَنَا ذُو مَال» دَلِيل عَلَى إِبَاحَة جَمْع الْمَال، لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَة لَا تُسْتَعْمَل فِي الْعُرْف إِلَّا لِمَالٍ كَثِير.قَوْله: «وَلَا يَرِثنِي إِلَّا اِبْنَة لِي» أَيْ: وَلَا يَرِثنِي مِنْ الْوَلَد وَخَوَاصّ الْوَرَثَة، وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ لَهُ عَصَبَة، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: لَا يَرِثنِي مِنْ أَصْحَاب الْفُرُوض.قَوْله: «أَفَأَتَصَدَّق بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لَا. قُلْت: أَفَأَتَصَدَّق بِشَطْرِهِ. قَالَ: لَا. الثُّلُث وَالثُّلُث كَثِير» بِالْمُثَلَّثَةِ وَفِي بَعْض بِالْمُوَحَّدَةِ، وَكِلَاهُمَا صَحِيح، قَالَ الْقَاضِي: يَجُوز نَصْب الثُّلُث الْأَوَّل وَرَفْعه، أَمَّا النَّصْب فَعَلَى الْإِغْرَاء أَوْ عَلَى تَقْدِير فِعْل، أَيْ: أَعْطِ الثُّلُث، وَأَمَّا الرَّفْع فَعَلَى أَنَّهُ فَاعِل، أَيْ: يَكْفِيك الثُّلُث، أَوْ أَنَّهُ مُبْتَدَأ وَحُذِفَ خَبَره، أَوْ خَبَر مَحْذُوف الْمُبْتَدَأ.وَفِي هَذَا الْحَدِيث مُرَاعَاة الْعَدْل بَيْن الْوَرَثَة وَالْوَصِيَّة، قَالَ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ مِنْ الْعُلَمَاء: إِنْ كَانَتْ الْوَرَثَة أَغْنِيَاء اُسْتُحِبَّ أَنْ يُوصِي بِالثُّلُثِ تَبَرُّعًا، وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاء اُسْتُحِبَّ أَنْ يَنْقُص مِنْ الثُّلُث. وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء فِي هَذِهِ الْأَعْصَار عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ وَارِث لَا تَنْفُذ وَصِيَّته بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُث إِلَّا بِإِجَازَتِهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى نُفُوذهَا فِي جَمِيع الْمَال.وَأَمَّا مَنْ لَا وَارِث لَهُ فَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور أَنَّهُ لَا تَصِحّ وَصِيَّته فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُث، وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَإِسْحَاق وَأَحْمَد فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ وَابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا.وَأَمَّا قَوْله: «أَفَأَتَصَدَّق بِثُلُثَيْ مَالِي؟» يَحْتَمِل أَنَّهُ أَرَادَ بِالصَّدَقَةِ: الْوَصِيَّة، وَيَحْتَمِل أَنَّهُ أَرَادَ: الصَّدَقَة الْمُنَجَّزَة، وَهُمَا عِنْدنَا وَعِنْد الْعُلَمَاء كَافَّة سَوَاء، لَا يَنْفُذ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُث إِلَّا بِرِضَا الْوَارِث، وَخَالَفَ أَهْل الظَّاهِر فَقَالُوا: لِلْمَرِيضِ مَرَض الْمَوْت أَنْ يَتَصَدَّق بِكُلِّ مَاله وَيَتَبَرَّع بِهِ كَالصَّحِيحِ، وَدَلِيل الْجُمْهُور ظَاهِر حَدِيث: «الثُّلُث كَثِير» مَعَ حَدِيث: «الَّذِي أَعْتَقَ سِتَّة أَعْبُد فِي مَرَضه فَأَعْتَقَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَة».قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّك إِنْ تَذَر وَرَثَتك أَغْنِيَاء خَيْر مِنْ أَنْ تَذَرهُمْ عَالَة يَتَكَفَّفُونَ النَّاس» الْعَالَة: الْفُقَرَاء. وَيَتَكَفَّفُونَ يَسْأَلُونَ النَّاس فِي أَكُفّهمْ.قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه رُوِّينَا قَوْله: «إِنْ تَذَر وَرَثَتك» بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَكَسْرهَا، وَكِلَاهُمَا صَحِيح.وَفِي هَذَا الْحَدِيث: حَثٌّ عَلَى صِلَة الْأَرْحَام، وَالْإِحْسَان إِلَى الْأَقَارِب، وَالشَّفَقَة عَلَى الْوَرَثَة، وَأَنَّ صِلَة الْقَرِيب الْأَقْرَب وَالْإِحْسَان إِلَيْهِ أَفْضَل مِنْ الْأَبْعَد وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضهمْ عَلَى تَرْجِيح الْغَنِيّ عَلَى الْفَقِير.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَسْت تُنْفِق نَفَقَة تَبْتَغِي بِهَا وَجْه اللَّه تَعَالَى إِلَّا أُجِرْت بِهَا، حَتَّى اللُّقْمَة تَجْعَلهَا فِي فِي اِمْرَأَتك» فيه اِسْتِحْبَاب الْإِنْفَاق فِي وُجُوه الْخَيْر. وَفيه: أَنَّ الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يُثَاب عَلَى عَمَله بِنِيَّتِهِ، وَفيه أَنَّ الْإِنْفَاق عَلَى الْعِيَال يُثَاب عَلَيْهِ إِذَا قَصَدَ بِهِ وَجْه اللَّه تَعَالَى. وَفيه: أَنَّ الْمُبَاح إِذَا قَصَدَ بِهِ وَجْه اللَّه تَعَالَى صَارَ طَاعَة، وَيُثَاب عَلَيْهِ، وَقَدْ نَبَّهَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا بِقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَتَّى اللُّقْمَة تَجْعَلهَا فِي فِي اِمْرَأَتك»؛ لِأَنَّ زَوْجَة الْإِنْسَان هِيَ مِنْ أَخَصّ حُظُوظه الدُّنْيَوِيَّة وَشَهَوَاته وَمَلَاذه الْمُبَاحَة، وَإِذَا وَضَعَ اللُّقْمَة فِي فيها فَإِنَّمَا يَكُون ذَلِكَ فِي الْعَادَة عِنْد الْمُلَاعَبَة وَالْمُلَاطَفَة وَالتَّلَذُّذ بِالْمُبَاحِ، فَهَذِهِ الْحَالَة أَبْعَد الْأَشْيَاء عَنْ الطَّاعَة وَأُمُور الْآخِرَة، وَمَعَ هَذَا فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إِذَا قَصَدَ بِهَذِهِ اللُّقْمَة وَجْه اللَّه تَعَالَى، حَصَلَ لَهُ الْأَجْر بِذَلِكَ، فَغَيْر هَذِهِ الْحَالَة أَوْلَى بِحُصُولِ الْأَجْر إِذَا أَرَادَ وَجْه اللَّه تَعَالَى، وَيَتَضَمَّن ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَان إِذَا فَعَلَ شَيْئًا أَصْله عَلَى الْإِبَاحَة، وَقَصَدَ بِهِ وَجْه اللَّه تَعَالَى يُثَاب عَلَيْهِ، وَذَلِكَ كَالْأَكْلِ بِنِيَّةِ التَّقَوِّي عَلَى طَاعَة اللَّه تَعَالَى، وَالنَّوْم لِلِاسْتِرَاحَةِ؛ لِيَقُومَ إِلَى الْعِبَادَة نَشِيطًا، وَالِاسْتِمْتَاع بِزَوْجَتِهِ وَجَارِيَته؛ لِيَكُفّ نَفْسه وَبَصَره وَنَحْوهمَا عَنْ الْحَرَام؛ وَلِيَقْضِيَ حَقّهَا؛ لِيُحَصِّل وَلَدًا صَالِحًا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَفِي بُضْع أَحَدكُمْ صَدَقَة» وَاَللَّه أَعْلَم.قَوْله: «قُلْت: يَا رَسُول اللَّه أُخَلَّفُ بَعْد أَصْحَابِي قَالَ: إِنَّك لَنْ تُخَلَّف فَتَعْمَل عَمَلًا تَبْتَغِي بِهِ وَجْه اللَّه تَعَالَى إِلَّا اِزْدَدْت بِهِ دَرَجَة وَرِفْعَة» فَقَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ: أُخَلَّف بِمَكَّة بَعْد أَصْحَابِي؟ فَقَالَهُ إِمَّا إِشْفَاقًا مِنْ مَوْته بِمَكَّة؛ لِكَوْنِهِ هَاجَرَ مِنْهَا، وَتَرَكَهَا لِلَّهِ تَعَالَى، فَخَشِيَ أَنْ يَقْدَح ذَلِكَ فِي هِجْرَته، أَوْ فِي ثَوَابه عَلَيْهَا، أَوْ خَشِيَ بِبَقَائِهِ بِمَكَّة بَعْد اِنْصِرَاف النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه إِلَى الْمَدِينَة وَتَخَلُّفه عَنْهُمْ بِسَبَبِ الْمَرَض، وَكَانُوا يَكْرَهُونَ الرُّجُوع فِيمَا تَرَكُوهُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا جَاءَ فِي رِوَايَة أُخْرَى: «أُخَلَّفُ عَنْ هِجْرَتِي» قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ: كَانَ حُكْم الْهِجْرَة بَاقِيًا بَعْد الْفَتْح؛ لِهَذَا الْحَدِيث، وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِمَنْ كَانَ هَاجَرَ قَبْل الْفَتْح، فَأَمَّا مَنْ هَاجَرَ بَعْده فَلَا.وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّك لَنْ تُخَلَّف فَتَعْمَل عَمَلًا» فَالْمُرَاد بِالتَّخَلُّفِ: طُول الْعُمُر وَالْبَقَاء فِي الْحَيَاة بَعْد جَمَاعَات مِنْ أَصْحَابه. وَفِي هَذَا الْحَدِيث: فَضِيلَة طُول الْعُمْر لِلِازْدِيَادِ مِنْ الْعَمَل الصَّالِح، وَالْحَثّ عَلَى إِرَادَة وَجْه اللَّه تَعَالَى بِالْأَعْمَالِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَم.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَعَلَّك تُخَلَّف حَتَّى يَنْفَع بِك أَقْوَام وَيَضُرّ بِك آخَرُونَ» وَفِي بَعْض النُّسَخ: «يَنْتَفِع» بِزِيَادَةِ التَّاء، وَهَذَا الْحَدِيث مِنْ الْمُعْجِزَات، فَإِنَّ سَعْدًا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَاشَ حَتَّى فَتَحَ الْعِرَاق وَغَيْره، وَانْتَفَعَ بِهِ أَقْوَام فِي دِينهمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَتَضَرَّرَ بِهِ الْكُفَّار فِي دِينهمْ وَدُنْيَاهُمْ فَإِنَّهُمْ قُتِلُوا وَصَارُوا إِلَى جَهَنَّم، وَسُبِيَتْ نِسَاؤُهُمْ وَأَوْلَادهمْ، وَغُنِمَتْ أَمْوَالهمْ وَدِيَارهمْ، وَوَلِيَ الْعِرَاق فَاهْتَدَى عَلَى يَدَيْهِ خَلَائِق، وَتَضَرَّرَ بِهِ خَلَائِق بِإِقَامَتِهِ الْحَقّ فيهمْ مِنْ الْكُفَّار وَنَحْوهمْ.قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ: لَا يُحْبِط أَجْر هِجْرَة الْمُهَاجِر بَقَاؤُهُ بِمَكَّة وَمَوْته بِهَا إِذَا كَانَ لِضَرُورَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ يُحْبِطهُ مَا كَانَ بِالِاخْتِيَارِ، قَالَ: وَقَالَ قَوْم: مَوْت الْمُهَاجِر بِمَكَّة مُحْبِط هِجْرَته كَيْفَمَا كَانَ، قَالَ: وَقِيلَ: لَمْ تُفْرَض الْهِجْرَة إِلَّا عَلَى أَهْل مَكَّة خَاصَّة.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتهمْ وَلَا تَرُدّهُمْ عَلَى أَعْقَابهمْ» قَالَ الْقَاضِي: اِسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضهمْ عَلَى أَنَّ بَقَاء الْمُهَاجِر بِمَكَّة كَيْف كَانَ قَادِح فِي هِجْرَته، قَالَ: وَلَا دَلِيل فيه عِنْدِي؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِل أَنَّهُ دَعَا لَهُمْ دُعَاء عَامًّا، وَمَعْنَى أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتهمْ: أَيْ أَتْمِمْهَا وَلَا تُبْطِلهَا، وَلَا تَرُدّهُمْ عَلَى أَعْقَابهمْ بِتَرْكِ هِجْرَتهمْ وَرُجُوعهمْ عَنْ مُسْتَقِيم حَالهمْ الْمَرْضِيَّة.قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَة» الْبَائِس: هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَثَر الْبُؤْس، وَهُوَ: الْفَقْر وَالْقِلَّة.قَوْله: «يَرْثِي لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّة» قَالَ الْعُلَمَاء: هَذَا مِنْ كَلَام الرَّاوِي وَلَيْسَ هُوَ مِنْ كَلَام النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ اِنْتَهَى كَلَامه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «لَكِنْ الْبَائِس سَعْد بْن خَوْلَة» فَقَالَ الرَّاوِي تَفْسِيرًا لِمَعْنَى هَذَا الْكَلَام: أَنَّهُ يَرْثِيه النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَوَجَّع لَهُ وَيَرِقّ عَلَيْهِ؛ لِكَوْنِهِ مَاتَ بِمَكَّة، وَاخْتَلَفُوا فِي قَائِل هَذَا الْكَلَام مَنْ هُوَ؟ فَقِيلَ: هُوَ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص، وَقَدْ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي بَعْض الرِّوَايَات، قَالَ الْقَاضِي: وَأَكْثَر مَا جَاءَ أَنَّهُ مِنْ كَلَام الزُّهْرِيّ، قَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِي قِصَّة سَعْد بْن خَوْلَة فَقِيلَ: لَمْ يُهَاجِر مِنْ مَكَّة حَتَّى مَاتَ بِهَا.قَالَ عِيسَى بْن دِينَار وَغَيْره: وَذَكَرَ الْبُخَارِيّ أَنَّهُ هَاجَرَ وَشَهِدَ بَدْرًا ثُمَّ اِنْصَرَفَ إِلَى مَكَّة وَمَاتَ بِهَا.وَقَالَ اِبْن هِشَام: إِنَّهُ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَة الْهِجْرَة الثَّانِيَة، وَشَهِدَ بَدْرًا وَغَيْرهَا، وَتُوُفِّيَ بِمَكَّة فِي حَجَّة الْوَدَاع، سَنَة عَشْر، وَقِيلَ: تُوُفِّيَ بِهَا سَنَة سَبْع فِي الْهُدْنَة، خَرَجَ مُجْتَازًا مِنْ الْمَدِينَة، فَعَلَى هَذَا وَعَلَى قَوْل عِيسَى بْن دِينَار سَبَب بُؤْسه سُقُوط هِجْرَته؛ لِرُجُوعِهِ مُخْتَارًا، وَمَوْته بِهَا، وَعَلَى قَوْل الْآخَرِينَ سَبَب بُؤْسه مَوْته بِمَكَّة عَلَى أَيّ حَال كَانَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِاخْتِيَارِهِ لَمَا فَاتَهُ مِنْ الْأَجْر وَالثَّوَاب الْكَامِل بِالْمَوْتِ فِي دَار هِجْرَته، وَالْغُرْبَة عَنْ وَطَنه إِلَى هِجْرَة لِلَّهِ تَعَالَى، قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَّفَ مَعَ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص رَجُلًا وَقَالَ لَهُ: إِنْ تُوُفِّيَ بِمَكَّة فَلَا تَدْفِنهُ بِهَا، وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِم فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «أَنَّهُ كَانَ يَكْرَه أَنْ يَمُوت فِي الْأَرْض الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا»، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لِمُسْلِمٍ: «قَالَ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص: خَشِيت أَنْ أَمُوت بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرْت مِنْهَا كَمَا مَاتَ سَعْد بْن خَوْلَة»، وَسَعْد بْن خَوْلَة هَذَا: هُوَ زَوْج سُبَيْعَة الْأَسْلَمِيَّة.وَفِي حَدِيث سَعْد هَذَا: جَوَاز تَخْصِيص عُمُوم الْوَصِيَّة الْمَذْكُورَة فِي الْقُرْآن بِالسُّنَّةِ، وَهُوَ قَوْل جُمْهُور الْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ الصَّحِيح.قَوْله: (حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيّ) هُوَ بِحَاءٍ مُهْمَلَة ثُمَّ فَاء مَفْتُوحَتَيْنِ، مَنْسُوب إِلَى الْحَفَر بِفَتْحِ الْحَاء وَالْفَاء، وَهِيَ مَحَلَّة بِالْكُوفَةِ كَانَ أَبُو دَاوُدَ يَسْكُنهَا، هَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو حَاتِم بْنُ حِبَّان، وَأَبُو سَعْد السَّمْعَانِيّ وَغَيْرهمَا. وَاسْم أَبِي دَاوُدَ هَذَا (عَمْرو بْن سَعْد) الثِّقَة الزَّاهِد الصَّالِح الْعَابِد، قَالَ عَلِيّ بْن الْمَدِينِيّ: مَا أَعْلَم أَنِّي رَأَيْت بِالْكُوفَةِ أَعْبَد مِنْ أَبِي دَاوُدَ الْحَفَرِيّ.وَقَالَ وَكِيع: إِنْ كَانَ يُدْفَع بِأَحَدٍ فِي زَمَاننَا- يَعْنِي الْبَلَاء وَالنَّوَازِل- فَبِأَبِي دَاوُدَ، تُوُفِّيَ سَنَة ثَلَاثَة وَقِيلَ: سَنَة سِتّ وَمِائَتَيْنِ، رَحِمَهُ اللَّه.3079- قَوْله: «عَنْ حُمَيْدِ بْن عَبْد الرَّحْمَن الْحِمْيَرِيّ عَنْ ثَلَاثَة مِنْ وَلَد سَعْد كُلّهمْ يُحَدِّثهُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى سَعْد يَعُودهُ بِمَكَّة» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ ثَلَاثَة مِنْ وَلَد سَعْد قَالُوا: «مَرِضَ سَعْد بِمَكَّة فَأَتَاهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودهُ». فَهَذِهِ الرِّوَايَة مُرْسَلَة، وَالْأُولَى مُتَّصِلَة؛ لِأَنَّ أَوْلَاد سَعْد تَابِعِيُّونَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ مُسْلِم هَذِهِ الرِّوَايَات الْمُخْتَلِفَة فِي وَصْله وَإِرْسَاله؛ لِيُبَيِّن اِخْتِلَاف الرُّوَاة فِي ذَلِكَ، قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا وَشَبَهه مِنْ الْعِلَل الَّتِي وَعَدَ مُسْلِم فِي خُطْبَة كِتَابه أَنَّهُ يَذْكُرهَا فِي مَوَاضِعهَا، فَظَنَّ ظَانُّونَ أَنَّهُ يَأْتِي بِهَا مُفْرَدَة، وَأَنَّهُ تُوُفِّيَ قَبْل ذِكْرهَا، وَالصَّوَاب أَنَّهُ ذَكَرَهَا فِي تَضَاعِيف كِتَابه كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي أَوَّل هَذَا الشَّرْح، وَلَا يَقْدَح هَذَا الْخِلَاف فِي صِحَّة هَذِهِ الرِّوَايَة وَلَا فِي صِحَّة أَصْل الْحَدِيث؛ لِأَنَّ أَصْل الْحَدِيث ثَابِت مِنْ طُرُق مِنْ غَيْر جِهَة حُمَيْدٍ عَنْ أَوْلَاد سَعْد، وَثَبَتَ وَصْله عَنْهُمْ فِي بَعْض الطُّرُق الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِم وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّل هَذَا الشَّرْح أَنَّ الْحَدِيث إِذَا رُوِيَ مُتَّصِلًا وَمُرْسَلًا فَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّهُ مَحْكُوم بِاتِّصَالِهِ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَة ثِقَة، وَقَدْ عَرَّضَ الدَّارَقُطْنِيُّ بِتَضْعِيفِ هَذِهِ الرِّوَايَة، وَقَدْ سَبَقَ الْجَوَاب عَنْ اِعْتِرَاضه الْآن، وَفِي مَوَاضِع نَحْو هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَم.3080- قَوْله: «عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ: لَوْ أَنَّ النَّاس غَضُّوا مِنْ الثُّلُث إِلَى الرُّبْع فَإِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الثُّلُث وَالثُّلُث كَثِير»، قَوْله: «غَضُّوا» بِالْغَيْنِ وَالضَّاد الْمُعْجَمَتَيْنِ أَيْ: نَقَصُوا. وَفيه: اِسْتِحْبَاب النَّقْص عَنْ الثُّلُث، وَبِهِ قَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء مُطْلَقًا، وَمَذْهَبنَا أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَرَثَته أَغْنِيَاء اُسْتُحِبَّ الْإِيصَاء بِالثُّلُثِ، وَإِلَّا فَيُسْتَحَبّ النَّقْص مِنْهُ، وَعَنْ أَبِي بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ أَوْصَى بِالْخُمُسِ، وَعَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ نَحْوه، وَعَنْ اِبْن عُمَر وَإِسْحَاق بِالرُّبُعِ، وَقَالَ آخَرُونَ بِالسُّدُسِ، وَآخَرُونَ بِدُونِهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بِالْعُشْرِ، وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: كَانُوا يَكْرَهُونَ الْوَصِيَّة بِمِثْلِ نَصِيب أَحَد الْوَرَثَة. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة وَغَيْرهمْ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِمَنْ لَهُ وَرَثَة وَمَاله قَلِيل تَرْك الْوَصِيَّة.قَوْله فِي إِسْنَاد هَذَا الْحَدِيث: (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب قَالَ: حَدَّثَنَا اِبْن نُمَيْر كُلّهمْ عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ اِبْن عَبَّاس) هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخ بِلَادنَا مِنْ رِوَايَة الْجُلُودِيّ، فَفِي جَمِيعهَا أَبُو كُرَيْب، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ وَقَعَ فِي نُسْخَة اِبْن مَاهَانَ (أَبُو كُرَيْب) كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَفِي نُسْخَة الْجُلُودِيّ (أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة) بَدَل أَبِي كُرَيْب، الصَّوَاب مَا قَدَّمْنَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَم..باب وُصُولِ ثَوَابِ الصَّدَقَاتِ إِلَى الْمَيِّتِ: 3081- «قَوْله: فَهَلْ يُكَفِّر عَنْهُ أَنْ أَتَصَدَّق عَنْهُ؟» أَيْ هَلْ تُكَفِّرُ صَدَقَتِي عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.3082- قَوْله: «إِنَّ أَبِي مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا وَلَمْ يُوصِ فَهَلْ يُكَفِّر عَنْهُ أَنْ أَتَصَدَّق عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ»، وَفِي رِوَايَة: «إِنَّ أُمِّي اُفْتُلِتَتْ نَفْسهَا، وَإِنِّي أَظُنّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، فَلِي أَجْر أَنْ أَتَصَدَّق عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ».قَوْله: «اُفْتُلِتَتْ» بِالْفَاءِ وَضَمِّ التَّاء أَيْ: مَاتَتْ بَغْتَة وَفَجْأَة، وَالْفَلْتَة وَالِافْتِلَات مَا كَانَ بَغْتَة، وَقَوْله: «نَفْسهَا» بِرَفْعِ السِّين وَنَصْبهَا هَكَذَا ضَبَطُوهُ وَهُمَا صَحِيحَانِ الرَّفْع عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله، وَالنَّصْب عَلَى الْمَفْعُول الثَّانِي.وَأَمَّا قَوْله: «أَظُنّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ» مَعْنَاهُ: لِمَا عَلِمَهُ مِنْ حِرْصهَا عَلَى الْخَيْر، أَوْ لِمَا عَلِمَهُ مِنْ رَغْبَتهَا فِي الْوَصِيَّة.وَفِي هَذَا الْحَدِيث جَوَاز الصَّدَقَة عَنْ الْمَيِّت وَاسْتِحْبَابهَا، وَأَنَّ ثَوَابهَا يَصِلهُ وَيَنْفَعهُ، وَيَنْفَع الْمُتَصَدِّق أَيْضًا، وَهَذَا كُلّه أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَة فِي أَوَّل هَذَا الشَّرْح، فِي شَرْح مُقَدِّمَة صَحِيح مُسْلِم.وَهَذِهِ الْأَحَادِيث مُخَصِّصَة لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِب عَلَى الْوَارِث التَّصَدُّق عَنْ مَيِّته صَدَقَة التَّطَوُّع، بَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّة.وَأَمَّا الْحُقُوق الْمَالِيَّة الثَّابِتَة عَلَى الْمَيِّت فَإِنْ كَانَ لَهُ تَرِكَة وَجَبَ قَضَاؤُهَا مِنْهَا، سَوَاء أَوْصَى بِهَا الْمَيِّت أَمْ لَا، وَيَكُون ذَلِكَ مِنْ رَأْس الْمَال، سَوَاء دُيُون اللَّه تَعَالَى كَالزَّكَاةِ وَالْحَجّ وَالنَّذْر وَالْكَفَّارَة وَبَدَل الصَّوْم وَنَحْو ذَلِكَ، وَدَيْن الْآدَمِيّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ تَرِكَة لَمْ يَلْزَم الْوَارِث قَضَاء دِينه، لَكِنْ يُسْتَحَبّ لَهُ وَلِغَيْرِهِ قَضَاؤُهُ..باب مَا يَلْحَقُ الإِنْسَانَ مِنَ الثَّوَابِ بَعْدَ وَفَاتِهِ: 3084- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَان اِنْقَطَعَ عَمَله إِلَّا مِنْ ثَلَاثَة إِلَّا مِنْ صَدَقَة جَارِيَة أَوْ عِلْم يُنْتَفَع بِهِ أَوْ وَلَد صَالِح يَدْعُو لَهُ» قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ عَمَل الْمَيِّت يَنْقَطِع بِمَوْتِهِ، وَيَنْقَطِع تَجَدُّد الْجَوَاب لَهُ، إِلَّا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة؛ لِكَوْنِهِ كَانَ سَبَبهَا؛ فَإِنَّ الْوَلَد مِنْ كَسْبه، وَكَذَلِكَ الْعِلْم الَّذِي خَلَّفَهُ مِنْ تَعْلِيم أَوْ تَصْنِيف، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَة الْجَارِيَة، وَهِيَ الْوَقْف.وَفيه فَضِيلَة الزَّوَاج لِرَجَاءِ وَلَد صَالِح، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان اِخْتِلَاف أَحْوَال النَّاس فيه، وَأَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي كِتَاب النِّكَاح. وَفيه دَلِيل لِصِحَّةِ أَصْل الْوَقْف، وَعَظِيم ثَوَابه، وَبَيَان فَضِيلَة الْعِلْم، وَالْحَثّ عَلَى الِاسْتِكْثَار مِنْهُ. وَالتَّرْغِيب فِي تَوْرِيثه بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّصْنِيف وَالْإِيضَاح، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَار مِنْ الْعُلُوم الْأَنْفَع فَالْأَنْفَع. وَفيه أَنَّ الدُّعَاء يَصِل ثَوَابه إِلَى الْمَيِّت، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَة، وَهُمَا مُجْمَع عَلَيْهِمَا، وَكَذَلِكَ قَضَاء الدَّيْن كَمَا سَبَقَ.وَأَمَّا الْحَجّ فَيَجْزِي عَنْ الْمَيِّت عِنْد الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِ، وَهَذَا دَاخِل فِي قَضَاء الدَّيْن إِنْ كَانَ حَجًّا وَاجِبًا، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا وَصَّى بِهِ وَهُوَ مِنْ بَاب الْوَصَايَا، وَأَمَّا إِذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَام فَالصَّحِيح أَنَّ الْوَلِيّ يَصُوم عَنْهُ، وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَة فِي كِتَاب الصِّيَام.وَأَمَّا قِرَاءَة الْقُرْآن وَجَعْل ثَوَابهَا لِلْمَيِّتِ وَالصَّلَاة عَنْهُ وَنَحْوهمَا فَمَذْهَب الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور أَنَّهَا لَا تَلْحَق الْمَيِّت، وَفيها خِلَاف، وَسَبَقَ إِيضَاحه فِي أَوَّل هَذَا الشَّرْح فِي شَرْح مُقَدِّمَة صَحِيح مُسْلِم..باب الْوَقْفِ: 3085- قَوْله: «أَصَابَ عُمَر أَرْضًا بِخَيْبَر، فَأَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْمِرهُ فيها، فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّه إِنِّي أَصَبْت أَرْضًا بِخَيْبَر، لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ هُوَ أَنْفَس عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرنِي بِهِ؟ قَالَ: إِنْ شِئْت حَبَسْت أَصْلهَا وَتَصَدَّقْت بِهَا، فَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُبَاع أَصْلهَا وَلَا يُورَث وَلَا يُوهَب، قَالَ: فَتَصَدَّقَ عُمَر فِي الْفُقَرَاء وَفِي الْقُرْبَى وَفِي الرِّقَاب وَفِي سَبِيل اللَّه، وَابْن السَّبِيل وَالضَّعِيف، لَا جُنَاح عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُل مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُطْعِم صَدِيقًا غَيْر مُتَمَوَّل فيه»، وَفِي رِوَايَة: «غَيْر مُتَأَثِّل مَالًا» قَوْله: «هُوَ أَنْفَس» فَمَعْنَاهُ: أَجْوَد، وَالنَّفِيس الْجَيِّد، وَقَدْ نَفُسَ بِفَتْحِ النُّون وَضَمّ الْفَاء نَفَاسَة، وَاسْم هَذَا الْمَال الَّذِي وَقَفَهُ عُمَر (ثَمْغ) بِثَاءٍ مُثَلَّثَة مَفْتُوحَة ثُمَّ مِيم سَاكِنَة ثُمَّ غَيْن مُعْجَمَة.وَأَمَّا قَوْله: «غَيْر مُتَأَثِّل» فَمَعْنَاهُ: غَيْر جَامِع، وَكُلّ شَيْء لَهُ أَصْل قَدِيم أَوْ جَمْع حَتَّى يَصِير لَهُ أَصْل فَهُوَ مُؤَثَّل، وَمِنْهُ مَجْد مُؤَثَّل أَيْ قَدِيم، وَأَثْلَة الشَّيْء: أَصْله. وَفِي هَذَا الْحَدِيث: دَلِيل عَلَى صِحَّة أَصْل الْوَقْف، وَأَنَّهُ مُخَالِف لِشَوَائِب الْجَاهِلِيَّة، وَهَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجَمَاهِير، وَيَدُلّ عَلَيْهِ أَيْضًا إِجْمَاع الْمُسْلِمِينَ عَلَى صِحَّة وَقْف الْمَسَاجِد وَالسِّقَايَات. وَفيه: أَنَّ الْوَقْف لَا يُبَاع وَلَا يُوهَب وَلَا يُورَث، إِنَّمَا يُتْبَع فيه شَرْط الْوَاقِف. وَفيه: صِحَّة شُرُوط الْوَاقِف. وَفيه فَضِيلَة الْوَقْف، وَهِيَ الصَّدَقَة الْجَارِيَة، وَفيه فَضِيلَة الْإِنْفَاق مِمَّا يُحِبّ. وَفيه: فَضِيلَة ظَاهِرَة لِعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. وَفيه: مُشَاوَرَة أَهْل الْفَضْل وَالصَّلَاح فِي الْأُمُور وَطُرُق الْخَيْر. وَفيه: أَنَّ خَيْبَر فُتِحَتْ عَنْوَة وَأَنَّ الْغَانِمِينَ مَلَكُوهَا وَاقْتَسَمُوهَا، وَاسْتَقَرَّتْ أَمْلَاكهمْ عَلَى حِصَصهمْ وَنَفَذَتْ تَصَرُّفَاتهمْ فيها.وَفيه فَضِيلَة صِلَة الْأَرْحَام وَالْوَقْف عَلَيْهِمْ.وَأَمَّا قَوْله: «يَأْكُل مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ» فَمَعْنَاهُ: يَأْكُل الْمُعْتَاد وَلَا يَتَجَاوَزهُ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
|